ظنون تدفع الى الحذر
لم يكن الامر بسبب تقصيري أو تقصير زوجي، فقبل الحجز في محطة القطار حسبت الأمر بدقة فوجدت ان ست عشرة دقيقة تكفيني كي اتحول برفقة عائلتي من قطار الى قطار، خصوصا وأن محطة التبديل ليست غريبة عليَّ، وهي مجهزة بمصعد ينقلنا بسرعة الى رصيف القطار الآخر. حزمت امري وأعددت حقائبي، وكأي رجل شرقي يحمل عن زوجه الاثقال والاطفال سارعت الى النزول من القطار الاول، واتجهت -بكامل حمولتي- الى المصعد الذي ينقلني الى الرصيف الذي يصله القطار الآخر فوجدت المصعد معطلا، وصار لزاماً عليَّ أن اجر أثقالي واطفالي على السلم طالبا من زوجتي أن تسرع امامي خفيفة الحمل سريعة العدو لتلحق بالقطار ريثما اصل مع الاثقال والاطفال، وقد لحقت به فعلا لكنه وبمجرد ركوبها تحرك بها متجها الى دولة أخرى لا يعرف بها الا الله وحده لا شريك له.
سحبت الموبايل واتصلت بموبايل زوجي التي أصبح قلبها فارغاً، فطمأنتها ونسقت التحرك معها بحيث تنزل في المحطة الأولى وألحق بها ومعي الاطفال والاثقال عبر قطار آخر لنلتقي بعد أقل من نصف ساعة قبل ان تصاب بجنون الامهات.
عندما وصلنا البيت وجدت رئيس التحرير قد ترك لي «ايميلا» يطلب فيه مني ان اكتب مقالة عن اضرار الموبايل!
لا يوجد شيء في الدنيا خال تماما من الاضرار، كما لا يوجد شيء خال تماما من المنافع، فحتى الخبائث فيها منافع، والقرآن يقول عن الخمر والميسر: فيهما إثم كبير ومنافع للناس، لكنه يضع قاعدة منطقية رائعة تقوم على الموازنة بين الاضرار والمنافع والعمل على اساس المحصلة النهائية.
وليس الموبايل بدعا من الامر ففيه أضرار كثيرة ومنافع للناس لكن منافعه – خلافا للخمر والميسر- تفوق اضراره من جميع الوجوه، فما هي هذه الاضرار؟ وما مدى خطورتها؟ وهل صحيح ان الموبايل يسبب السرطان والعقم والضعف الجنسي والصداع والوهن والارق وضعف الذاكرة وتليـّف الدماغ واختلال جهاز المناعة وتدهور السمع وطنين الاذن وتشوه الجنين و... و... وانتشار الفساد المالي والاداري واستفحال الارهاب وانتهاك حقوق الانسان وتكريس الطائفية والمحاصصة، وما الى ذلك من الاضرار التي يتحدث عنها غير المختصين الذين ابتلانا الله بهم؟
دعونا نعود بالقصة الى اصلها كي نستمسك بعروة وثقى في هذا الصدد.
شيء من الفيزياء
محل النزاع في اضرار الموبايل هو الامواج (أي الاشعاعات) التي تصدر منه ويستقبلها، فهي امواج راديو تصنف فيزيائيا ضمن الطيف الكهربائي المغناطيسي، هذا الطيف الذي ينتج من تغييرات كهربائية تنتج حقلا مغناطيسيا (أو تغييرات مغناطيسية تنتج تيارا كهربائيا، فالامران صحيحان). تشمل الامواج الكهرو-مغناطيسية انواعا عدة من الاشعاعات ضمن مدى واسع من الترددات Frequency أضعفها تردداً وأقلها طاقةً أمواج الراديو (او الامواج اللاسلكية) التي تأتي امواج الموبايل ضمنها، وأعلاها تردداً واقواها طاقةً موجات اشعة غاما. اما امواج النور المرئي (الاشعة الضوئية العادية) فهي تقع في منتصف الطيف من حيث التردد والطاقة. وكلما زاد التردد اصبحت الموجة أقصر واصبحت تأثيراتها اكبر، ويصل تأثير الامواج ذات الترددات العالية جدا (كأشعة اكس واشعة غاما والاشعة فوق البنفسجية) الى إحداث تأثيرات كهربائية في الوسط الذي تمر فيه يعرف بالتأيّن Ionization.
امواج الموبايل امواج طويلة نسبيا ذات طاقة منخفضة قياسا بالاشعة فوق البنفسجية التي تحتويها اشعة الشمس التي تلفح وجوه طبقات الشعب التي تنتخب الذين لا يتعرضون لاشعة الشمس، وأقل ايضا من أشعة اكس التي تنطلق في المستشفيات الراقية من أجهزة التصوير الشعاعي المتطورة (التي لا يتعرض لها الكثير من الناخبين). وتختلف اشعة الراديو عن أشعة اكس والاشعة فوق البنفسجية بأنها، وبسبب طاقتها المنخفضة، لا تسبب اضرارا للمنظومة الجينية DNA. أما اشعة اكس وفوق البنفسجية فهما من الاشعاعات الـمؤيّنة Ionizing radiations التي تسبب تأيّن الجزيئات التي تخترقها، وهذا التأيّن هو الضرر الاساسي الذي إذا اصاب الخلايا الجسمية فقد يؤدي- ضمن شروط خاصة- الى الاصابة بالسرطان، واذا اصاب خلايا الجنين فقد يؤدي الى التشوهات الخـلقية.
وحقيقة ان امواج الموبايل والاشعة فوق البنفسجية واشعة اكس جميعها اشعة كهرو-مغناطيسية وحقيقة أن «بعض انواعها يسبب السرطان» هما اللتان اوقعتا غير المختصين في خطأ اعتبار امواج الموبايل سببا للسرطان حين عجزوا عن فهم الفرق بين الأشعة المؤينة والاشعة غير المؤينة، فأصدروا على الموبايل حكما يشبه حكم الاعدام الذي اصدره قرقوش في حق خياط طويل القامة، فراجعه الجلاد ملاحظا عدم امكان اعدامه لانه اطول من المشنقة، فأمر قرقوش باستبداله بخياط قصير القامة لتنفيذ الحكم به. وهكذا غير المختصين... اصدروا حكما على فرد بريء ينتمي الى طائفة كهرو-مغناطيسية لأن افرادا آخرين من الطائفة نفسها ثبت تورطهم في المشاركة بالتسبب بالسرطان.
ماذا يقول المختصون؟
عندما يفسح غير المختصين المجال لذوي الاختصاص ليقولوا ما يعرفون فانهم يقولون: ان الجزم بأضرار صحية للموبايل غير وارد في الوقت الحاضر، وكل ما يقال فعلا هو ظنون واحتمالات، والظن لا يغني من الحق شيئا. نعم تدفع هذه الظنون الانسان الى الاحتياط خشية ان يتحول الظن الى يقين يوم لا ينفع الندم.
لا يقول المختصون ذلك من خلال معلوماتهم العامة أو مسموعاتهم الخاصة، انما يستنبطون ما يقولون من نتائج البحوث العلمية المصممة خصيصا للاجابة عن سؤال: ما هي اضرار الموبايل على الصحة؟
وللاجابة عن هذا السؤال صمم المختصون بحوثا علمية تخضع لمقاييس صارمة تضمن صحة النتائج وعدم تأثرها بأي عامل يمكن ان يخدش في حياديتها ويؤدي الى «اعادة الفرز يدويا».
التقارير التي تتحدث عن تسبيب الموبايل للسرطان والعقم وتليف الدماغ وفقدان الذاكرة الخ... هي في الغالب تقارير صحفية تفهم البحوث الطبية بطريقة جرائدية، او تستند الى بحوث غير مستوفية للشروط العلمية الصارمة. واذا ركزنا على العلاقة بين الموبايل واورام الدماغ – باعتبارها اخطر الاضرار المزعومة- فان اثبات هذه العلاقة السببية يقتضي ان تـُظهر البحوث ما يلي:
- ان تكون الاصابة بأورام الدماغ أعلى بين مستخدمي الموبايل منها بين من لا يستخدمونه، وهذا الفارق ينبغي ان يكون كبيرا من الناحية الاحصائية.
- ان تخلو الحالات الموجبة (أي المصابة بالاورام) من التعرض لأي عامل آخر من العوامل المعروفة المسببة للاورام كي نستطيع ان ننسب الاورام الى الموبايل لا الى عامل آخر.
- ان تشمل الدراسة (أي البحث العلمي) عددا كبيرا من الحالات الموجبة والسالبة، ولا يُكتفى ببضع عشرات من الحالات (ما يعرف في عالم البحوث بـ Large series study).
- ان تعاد الدراسة في اكثر من مركز علمي في اماكن متفرقة في العالم ثم تظهر النتائج نفسها او نتائج قريبة منها (ما يعرف في عالم البحوث بـ Reproducability).
هذه بعض الشروط العلمية للبحوث الطبية، فهل توافرت في التقارير التي ادعت العلاقة السرطانية مورد البحث؟
نريح القارئ سلفا فنقول: لا.
لكن ينبغي ألا يُفهم من هذا النفي اننا نقول ان لا علاقة هناك. اننا نقول انه لم يثبت وجود هكذا علاقة حتى الآن. أما ماذا يخفي المستقبل؟ فهذا ما لا يعلمه الا عالم الغيب، فقد تثبت هذه العلاقة وقد لا تثبت، لكنها لو ثبتت فهي لا تعطي لمدعي وجودها أي ميزة كونه سبق عصره في ادعاء وجودها، فالادعاء بدون دليل كاف لا قيمة له حتى لو ظهرت صحته في مستقبل الايام. فأنت تستطيع ان تدعي اشياء كثيرة ثم تقول: «سوف يثبت لكم ذلك في المستقبل» فان اثبت المستقبل ذلك ستنتفخ فخرا بمعرفتك، وان لم تثبت فستقول: لم يحن الوقت بعد فالمستقبل لا حدود له الا قيام الساعة.
نماذج
اظهرت دراسة اجريت في جامعة لند السويدية ان امواج المايكروويف تؤثر على دماغ الفئران مسببةً نضوح البروتينات من الأوعية الدموية الى نسيج الدماغ، لكن مجموعة أخرى من الباحثين اجرت الدراسة ذاتها فلم تتوصل الى النتائج نفسها.
دراسة اخرى اجريت في جامعة اوربرو في السويد اظهرت علاقة احصائية بين استخدام الموبايل واورام الدماغ، لكن عدد الحالات التي شملتها تلك الدراسة لم يكن كبيرا، ولم يمكن التوصل الى النتائج اياها في دراسات لاحقة أجريت على اعداد اكبر وروعيت فيها الشروط العلمية بصرامة.
في الدنمارك اجريت في العام 2006 دراسة على 42000 مواطن دانماركي استمرت عشرين عاما بهدف اكتشاف علاقة بين السرطان واستخدام الموبايل، وكانت النتيجة عدم وجود هكذا علاقة.
وفي دراسة مقارنة اجريت على 5000 شخص مصابين بأورام الدماغ تبين ان المصابين تكلموا بالموبايل في السنوات العشر التي سبقت اصابتهم بالسرطان بدرجة أكبر من الاصحاء الذين شاركوا في الدراسة ولم يستخدموا الموبايل بالكثافة نفسها. لكن الاعتراض الذي واجهته هذه الدراسة يتمثل في اعتمادها كليا على ما يدعيه المصاب بالسرطان من عدد ساعات استخدام الموبايل خلال تلك الفترة، فقد ذكر بعضهم انه كان يتحدث 12 ساعة في اليوم لمدة عشر سنوات من دون انقطاع، وهو أمر لا يمكن تصديقه بسهولة. وفي دراسة اجريت على عشرة آلاف شخص في 13 دولة بهدف اكتشاف العلاقة نفسها لم تظهر ادلة دامغة على وجود علاقة من هذا النوع.
وفي دراسة شملت عدداً محدوداً من الحالات في السويد وجدت علاقة بين الموبايل والسرطان، لكن البروفسور سويردلو رفض هذه النتيجة مسلطا الاضواء على عيوبها العلمية.
امام هذه البحوث ذات النتائج المتباينة تأتي منظمة الصحة العالمية لتقول كلمتها التي تغربل كل البحوث وتحسم النزاع: من المستبعد ان يتسبب السرطان نتيجة التعرض لامواج الهاتف الخليوي او من ابراجه المنتشرة على اسطح البنايات. وما قالته منظمة الصحة العالمية يطابق ما نقلته صحيفة «الاندبندنت» في عددها الصادر يوم 18 أيار (مايو) الفائت عن البروفسور باتريشيا مكيني من جامعة ليدز.
أضرار مزعومة
عدا السرطان والاورام هناك اضرار متفرقة تعزى لهذا الجهاز، منها ما يتعلق بالاضرار العصبية الناتجة عن استعماله لساعات طويلة كل يوم كالصداع والدوار وضعف الذاكرة... وكل هذه الاضرار هي في الغالب ناتجة من الاجهاد الذي يتعرض له مستخدم الموبايل بسبب المهنة او الوظيفة التي تتطلب هذا الاستخدام الثقيل للموبايل، فمن يخابر ساعات عدة في اليوم يقع تحت تأثير الاخبار التي يتلقاها عن المهنة ومصاعبها ومشاكلها ومسؤولياتها وهذه امور تسبب الاجهاد الفكري والنفسي الذي يسبب الصداع وضعف التركيز وما الى ذلك من اضرار تنسب الى الموبايل وهو منها براء.
ومن الاضرار ما ينسب الى الابراج المنصوبة على اسطح البنايات، فالكثير يدعي انها تتسبب لساكن تلك البنايات بتأثيرات ضارة، لكن الحقيقة ان ذلك لم يثبت في دراسة علمية موثوقة انما جاء في اقوال يجري تداولها بين رواة ثقاة وعدول، لكنهم بشر غير منزهين عن العامل النفسي الذي يجعل من يسكن في بناية يعلوها برج الموبايل تستبد به الوساوس من هول ما يسمع عن تلك الاضرار فيعزو كل ما يصيبه الى ذلك البرج المنتصب فوق بنايته.
لكننا نكرر هنا ما قلناه في صدر الحديث من أنه لم يثبت بدليل قاطع وجود هذه الاضرار، غير اننا لا ننفي احتمال ان تظهر ادلة على هذه الاضرار او غيرها في المستقبل، ولذا يوصي المختصون -كاجراءات احتياطية - ان يتجنب الانسان الاسراف في الاستخدام- خصوصا للاطفال والمراهقين - وان يستخدم الجهاز بعيدا عن الرأس (أي بتوصيل السماعة) اذا كان الاستخدام مكثفا، وان لا يسرف فيه اذا كانت الشبكة ضعيفة، الى جانب توصيات أخرى تصبح كلها سخيفة اذا ذهبت الزوجة بقطار غير القطار الذي فيه زوجها واطفالها.
كشفت دراسة جديدة أعدّتها أكسنتشر (المدرجة في بورصة نيويورك تحت رمز ACN) ومايكروسوفت، أن الشركات في منطقة الشرق
كشفت دراسة استقصائية صادرة عن شركة "آي دي جي" لأبحاث السوق بالتعاون مع «إف 5»، أن نسبة 94 بالمئة من مزودي خدمات